Thursday, March 21, 2013

رحلة إلى الذات الحبيسة


أيام تمرُ بها متشابهات ، وأحياناً مختلفات .. إنها لا تعرف للحزن معنى ، ترتسم دوماً على وجهها علامات السعادة، الاندهاش، الأمل، التعب،الألم، النسيان -أو عساها علامات الرّغبة الملحّة في النسيان- وكل تلك العلامات في آن واحد !  .. إنها برفقة من يعطون لحياتها معنىً حقيقياً، تتبسّم ، تضحك، تتحدث، وأحياناً تنسى وجودها بينهم .. وبرغم وجودهم، وبرغم حبّها الصادق لهم .. إلا أنها تظل متقوقعة على نفسها في عالم خاص بها لا يفقه أحد فيه شيء سواها، ماذا يجدر بها أن تسمِّي هذا العالم؟! .. إنها لا تعرف إن كان سجناً قاتماً أَم بقعة منيرة متسعة هي أقصى أمانيها في الواقع ، تخشى أن تتعمّق في هذا العالم فتفقد من جديد ما وجدته من ذاتها من فُتات بعد رحلة طويلة من البحث ، ولكنّها ما إن تتعمّق في هذا العالم المليء بالأسرار -التي يُخيَّل إليها أحياناً أنها لا تعرفها- حتى تكتشف أنها تجد فُتاتا أكثر بعثرة مما وجدته قَبْلاً .. وفي هذه المرّة تصمم أن تستمر في بحثها المضني، فتجد ما تعتقد أنه آفة ; ألا وهو محاسبة نفسها عن كل شيء بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كل شيء ! ; إنها تُحمِّل نفسَها أخطاء لم ترتكبها، ولكنَّ فجيعة فقدانها من ارتكبوا تلك الأخطاء في زحام الحياة-أو ربما في ظلال عمى بصيرتها- تتسبب في هذا العذاب المقيم .. الذي لا يشعر به سواها أحياناً كثيرة ..

إنها لا تعرف حقاً من ارتكب تلك الأخطاء التي أحالت ذاتها إلى فُتات لا زالت تقتفي أثره حتى الآن ، ومزّقت أواصر ثقتها في جُلِّ من حولها، هل الذنب ذنبها؟! أم ذنب من حولها؟! أم أنها قد خدعت نفسها ولم يكن هنالك أخطاء من الأساس؟! ذلك سؤال دائماً ما استحق البحث عن إجابة في اعتقادها .. لن يهدأ لها بال حتى تعرف على الأقل هل هذه بالفعل أخطاء أم هي من حوّلت مجرّد كلمات وعبارات وأفعال عابرة إلى قيد لها بلا مفتاح ! 

ليست هي ممن يعشقون التفتيش في أوراق الماضي; إنها تودّ أن تصنع من نفسها أخرى لا يمثّل لها الماضي سوى ذكريات عابرة جميلة -مهما كانت بالفعل قاسية حينها- وتعيش حياة مليئة بالكفاح اللذيذ مما يعطي لحياتها وحياة الآخرين متعة لا يشعر بها إلا من استقى من بئرها العميق، ولكن يأبى الماضي إلا أن يطاردها فتجده أمامها مفزعاً أحياناً ومريحاً لقلبها أحياناً أخرى .. لكنّه يبقى دائماً في نظرها ماضياً يمنعها من مواصلة حياتها كأي إنسان ممن تظنّ أنهم في رغد من العيش -ووحده ربهم بهم أعلم- بلا تفكير في الماضي.. ذلك الماضي المفزع يتمثّل أمامها كثيراً في هيئة "بشـر" كانت تعتقد مخطئة أنها أحسنت فيهم الاختيار ، إلا أنهم قد خيّبوا أملها وخذلوا معتقدها فيهم -أو هي من تظن ذلك- وللأسف، تظل متشبثة بهم .. فالمفقود دائماً مرغوب،وفي ذلك حـيرة كبيرة تشكّل على عقلها هالة أقرب إلى الجنون منها إلى المنطق، من هنا لا يتوقّف بحثها عن المخطئ والمُصيب ليس إلا لأنها تودّ أن ترتاح وألا تَظْلِم وأن تقطع دابر الشك!، فهي تخاف الظلم والفقدان ، إنهما عنوان لرواية سخيفة تدور فصولها حول تأنيب ضمير وعذاب إلهي في الدنيا والآخرة، هي لا تقوى على احتمال مجرّد التفكير في وجود تلك الرواية رغم إنها حقيقة -شاءت أم أبَت- منذ بدء الخليقة ، وحتى قيام الساعة، إلا أن في بعض الفقدان حياة !

بعض الصوّر لماضيها المُريح تمرّ على حاضرها كطيف جميل و رُوح تود هي ألا تفارقها، لدرجة إنها تتخيّل نفسها تركض وراء تلك الصور بكل ما أوتِيَت من قوة لعلّها تتمكن من الإمساك بإحداها، لتحتفظ بها في أبهى ما ينبغي لها من أُطُر .. لكنّها تَعْدِل عن ذلك التفكير عندما تلمح شبح الحزن يحوم حول تلك الذكريات وعندما تترقرق دمعة خفيفة في عينيها، فهي تبغض الحزن وتود لو أنه يُمحى من وجود الدنيا .. إلا أنه متعلّق بها كما يتعلّق الرضيع بأمّه ، ولكنّها ليست ككل أم .. إنها قاسية تود أن تَئِد ذلك الرضيع لئلا يكبر ويلازمها، فهو ليس كأي بشري عندما يكبر ينفصل عن أمه، بل هو لا يترك إلا من يود تركَه والخروج من أسره!

فلنقُلْ إنها تكره كل ما يشعر به الإنسان من سلبية تغتال وجوده .. لو أنها تملك لدحضت كل تلك المشاعر البغيضة ودفنتها في مقبرة النسيان ، ولكن تلك المشاعر ضرورة كونية تحتّمها الأحداث وردود الأفعال تجاهها .. هي نفسها تقع في فخّها مهما اعتقدت أنها بارعة في تفاديه! .. إنها تؤمن بأن لو كان للذكريات لسان لصرخت تـألّماً ، ولو كان لها عيون لبكت توجّعاً .. فنحن البشر نكلّفها ما ليس بوسعها ونحمّلها ذنوب حماقاتنا ! .. لا مناص لها من البحث عن ذاتها المهجورة ... أو المفقودة، أحياناً يُضنيها البحث عن ذاتها وعمّا هو مجهول حتى أن الدموع في عينيها تنضب .. وهي تستجدي عطفها بكل قوتها لعلّ دمعة واحدة تسقي جفاف قلبها وتعيد إليه ما شحب من لونه ! ، لعل تلك الدمعة تُخرِج ما بداخلها من صرخات كُبِتت ولم تجد داعياً -مريحاً للضمير ومُسكِتاً لألسنة الجاهلين- للتدوية في الآفاق وفي آذان الكون فربّما ترتاح ويسمع الغافلون !