Thursday, August 22, 2013

جند مجندة ..

إن الصداقة "الحميمة" وليدة الأسرار ، الآلام، الذكريات، والأحاديث الطويلة وليدة الأفكار الفائضة ، والمشاعر فاقدة الاحتواء .. وفاقدة الدفء . وتلك الأخيرة هي الأكثر مدعاة للحديث، فعندما -مثلًا- تطرق الوحدة باب قلبك بعنف، تشعر بالحاجة الملحّة إلى شخص واحد فقط دون غيره ، ذلك الشخص الذي تغمرك لذة الحديث إليه بلا نهاية، ويطمئنك أمامه عُريُك الشعوري بلا أدنى شعور بالخوف.. وأقول ذلك الشخص دون غيره لأنه هو وحده القادر على تخليصك من الهم المطبق على صدرك ; هم الوحدة ..

ما أسهل أن تقول أن الوحدة شيء رائع !.. ولكن الواقع مختلف تمامًا، فللوحدة هول، للوحدة رائحة تجعلك تشتهي البكاء من بعد البسمة، البكاء طويل المدى.. للوحدة قلب، كل نبضة له صاحبة ذكرى، تلك النبضات متصلة مباشرة بمراكز الإحساس في مخك، أغلب المشاعر التي تستثيرها مشاعر الخوف من الوحدة، التألم بسبب الذكريات، الكمَد من عمق الليل وظلامه وأصواته العابرة المخيفة ! الوحدة ليست بتلك البساطة أو الروعة.. إنها مستودع الأشجان وبحر الآلام الأُجاج !

وبحكم أني أحب أن أؤيد حديثي بالأمثلة، سأتحدث عن تلك المحادثات العميقة على شبكة الإنترنت ،حيث إني بشكل شخصي أفضلها أكثر من الحديث وجهًا لوجه. ثمة خواطر لا يمكنك البوح بها -في أشد أوقات حاجتك إليه- سوى عندما تجد نفسك أمام شاشة كمبيوتر وأمامك لوحة مفاتيح تعزف عليها لحن شجنك وذكرياتك وحوادث يومك ، ولا يكون للأعين الكثير من الفائدة في تلك المحادثات; إنه حديث روح وقلب جريحيْن قلِقيْن كتوميْن يجدان الترياق والطمأنينة وفيض الكلام بوجود الروح الشريكة في الحديث، تلك الروح المصطفاة عن أي جند مجندة مؤلّفة أخرى ! 

من أثقل الخواطر التي يمكنك أن تستهل بها حديثك لتتخفف منها: تلك الحوادث اليومية التي تتغذى على عمرك الذهني والنفسي والجسدي، فتشعر كأن لم يُستَنزَف منك شيء عندما تبدأ في الكلام وتذيب جليد قلبك وتذهب عن دماغك كل فكر يروّعك ويقض مضجعك. وما أجمله ذلك الوقت الساحر المسحور; الثلث الأخير من الليل ! فهو بمثابة مصفاة للروح من شوائب الحزن والقلق والإحباط وغيرها،وفي الأصل بمثابة روح ثالثة طيبة العشرة تشهد التحام روحك وصديقك وامتزاج قلبيكما ليصبحا قلبًا واحدًا، دون أن تزعجكما ، بل على العكس، إنها أيضًا تعيد إليكما ما سُرِق منكما من السكينة والدفء .

شديد النقاء ذلك الوقت في نهاية المحادثة التي تمتد لساعات، والذي يعبر فيه كل منكما عمّا بقي في القلب -فدومًا آخر كل شيء هو الأحلى- بغير اكتراث لذلك العقل المزعج الذي يفكّر بالمستقبل والعواقب بلا هوادة ولا شفقة على القلوب الممزّقة حرقةً وأنينًا وكبْتًا. يا لِها من مشاعر بريئة تطير بحرية ! ليس عليها رقيب سوى الرقي الروحي الذي تشعر به حينها، الرقي الذي يأخذك حتى من "الأنا الأعلى" التي بداخلك، فيرتفع بك إلى أسمى ما يمكن لبشر أن يبلغه في هذه الدنيا ..

بقي أن أصف كيف تكون الروح بعد البوح، إنها تصبح شفافة كما لو لم تشُبها شائبة من قبل، كما لو ما زالت على الفطرة النقيّة التي فطرها الله عليها، بريئة من الأسقام، ومن آلام الكتمان وتشتت الفكر في محاولات متكررة للبوْح في غير الليل. فيا أيّها الشاكي ألم الوحدة المزمن، إن لم تجد تلك الروح التي تحتوي روحك، فلا تزال الفرصة بحوزتك لتجد عونك في الحياة على تحمّل مشقاتها، وشبيه روحك الذي ينتشلها من غياهب الغربة ويسقيها من عذب الونس والراحة .

Tuesday, July 16, 2013

فضفضة .. وربما رسالة.

سلام عليك يا "شهر يار" .. نعم هذا أقرب اسم يعبّر عن حالتك الآن، فأنا أقص وأنت تسمع، ولكنّي أقص بخوف أكبر مما حملته "شهر زاد" ، فأنا الآن أعبّر عمّا دُفِن بداخلي أعوامًا حتى تحول إلى كومة من الأوراق المحترقة. كان يجب أن تطفو تلك الكومة على سطح قلبي في يوم من الأيام، ولكن بعد أن حوّل لون حبرها قلبي إلى اللون الأسود.. أظنّ أن هذا سيكون أشدّ عقاب تلقتيه في حياتك ، ولم أتخيّل أبدًا أنني سأسمح لنفسي بمجرد التفكير في هذه الخواطر، ليس فقط بالتحدث إليك عنها !

كنتَ بالنسبة لي شيئًا أعجز عن وصفه ، ولكن ما أستطيع قوله أن فقدانه قد سبب لي جرحًا غائرًا لم يندمل بعد ، وعذابًا لم تخفف وطأته الأيام. نجحت أمّي في رسم لوحة متقنة من صفاتٍ لم أرَها في رجل سواك، لوحة ألوانها الشرف ، والصدق، والإخلاص، والقوة والجَلَد.نعم تعلّمت منك الكثير. بمناسبة هذا الشهر الكريم الذي أكتب فيه هذا الكلام ، أذكر حين أخبرتك أمّي أني لا أريد إكمال صيام يوم عن آخره، أذكر جيدًا كيف وقفت أمامك وكيف كنت غاضبًا مني، كانت نظراتك تنمّ عن شيء لم تفهمه عقليتي المحدودة حينها، ولم تدرك تلك العقلية من ذلك الموقف سوى آلام الخوف- النفسية والجسدية - ولكن بعد مرور السنين استطعت أن أدرك منه لمحة، كيف أنّك كنت تغضب ويرتفع صوتك حبًا قبل رغبة في إخافتي،كيف أنك كنت حريصًا على دينك .آهٍ ! لَكَم كانت تؤلمني نبضات قلبي المجنونة حينما كنت أقف أمامك، لَكَم كان صوتها عاليًا لدرجة أني أسمعه الآن ! ولكني أيضًا لا زلت أذكر حديث أمي عنك، أنك لم تفكّر يومًا في أن تكون لامرأة غيرها، لم تغِب يومًا عن بالي جملتها الشهيرة:"أبوكِ كان بجد راجل شريف جدًا". سبب آخر من أسباب فخري بك هو ذلك السبب المعتاد لدى كل الأبناء، حينما أتيت إلى مدرستي في يوم الإفطار الجماعي لتسألني هل استمتعت باليوم أم لا، وكنت في قمة السعادة حين رأتني صديقاتي ويدي ممسكة بيدك في طريقنا إلى السيارة. أنتَ حقًا كنت وستظل مدعاة للفخر بالنسبة لي، يا من وُهِبت ما سيكون دائمًا من الصعب على قلبي أن ينساه !

نسيت أن أذكر بعضًا من صفاتك الجسدية رغبة في الشمول. أعترف أني أحب بنيانك القوي الصلب، بشرتك السمراء التي لا أعتقد أني سأحبها في رجل بعدك. عندما كنتَ تطلب منّي أن آخذ نظارتك لأضعها على الطاولة المجاورة لسريرك، كانت لحظات كفيلة بإعطائي فرصة للتأمّل فيما خلف تلكما الزجاجتين، هاتين الجوهرتين الأشبه بالعقيق. كان ذلك اللمعان البرّاق والحزن الدفين يختفيان دومًا عندما كنت ترتدي النظارة، كم أحببت لونهما "العسلي"! كم أحببت صوتك وبسمتك !.. كم أحببت رائحتك ! .. كم أحببت صوت خطوِك ! .. كم أحببت كل شيء فيك ! 

والآن دعني أتحدث إليك كما لو كنت جنّيَّ المصباح السحري وأجمع قطع الأمنيات المتناثرة في كل عام من عمري. يؤسفني أن أقول لك أنك قد أسأت فهمي، وربما أسأت فهم نفسك. لم أكن أريد منك نقودك فقط كما ظننت، لم أكن أرغب في الملابس أو الطعام أو مال تجمعه في سبيل "تأمين مستقبلي" كما كنت تقول دومًا. كنت فقط أود أن تتحدث إليّ حديث أبٍ لابنته، أن تكون علاقتنا مبنية على الاحترام الحقيقي وليس على الخوف، لا يعني هذا أني لا أحترمك، ولكنّ المسافة التي صنعتَها بيني وبينك ألبَست عليّ الأمر، هل أنا أحبّك وأحترمك حقًا أم فقط أخاف منك؟؟ أخاف من شبح يسمًى "بابا" ؟! .. حقًا لا أعرف ! ألم تلحظ أني ذكرت أمي بكثرة في هذا الحوار؟! .. عفوًا فلم تدع لي مجالًا لأوجه الحوار إلى وجهة أخرى; أمي كانت دائمًا حلقة الوصل بيني وبينك .. وربما كانت دائمًا الحائل بين حدوث العديد من المشكلات في الأسرة. لم أكن أودّ لأمي سوى أن تكون شريكة في الأحاديث بيننا ، وليست محاميًا يترافع في قضية ملؤها الغموض والترقب. كنتَ ستكون أبًا أفضل إن كنت تدخل إلى غرفتي ليلًا لتسألني عن نهار كل يوم شاق قضيته في المدرسة، لتطمئن من صدق ابتسامتي، لنجلس ونتسامر أنا وأنت وأمي وإخوتي ،لتضمني حتى أنام، لتعاقبني بحكمة ورفق،لتجلب لي لعبة وأنت عائد إلى المنزل، ولكن الحقيقة -التي لم تنكرها أنت يومًا- أنك لم تكن تعرف عنّي سوى سنّي وصفّي الدراسي وأني ذكيّة وأشبه جدتي، والدتك ! لم تكن حتى تخبرني أنك كنت تطلب مني الأشياء بكثرة لأنك تحب أن ترى وجهي كثيرًا ، هذه المعلومة التي أخبرتني أمي بها !

في الختام، أدعو الله أن يرحمك ويسكنك فسيح جناته، ويجمعني بك فيها ، بلا صخب ولا خوف ولا قلق ولا نَصَب .وأقول أنك أنت الرجل الذي توقّف عقلي عن استيعاب من بعده، لأنك قد تركت في أعماقي ما هو أصعب من أن يُنسَى وأسهل من أن يُغتفر. أسألك أيضًا أن تسامحني على هذا الكلام الذي لن يروق لكَ أبدًا لو كنتُ قد واجهتك به عندما كنت حيًا. وأعتذر لنفسي عنك، أنك لم تصقل فيّ الشجاعة لأقول لك مثل هذا الكلام، كما لو كنت أحاور صديقي، وليس أبي !

Monday, June 17, 2013

تلك التفاصيل الصغيرة..

إنها تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع سعادتنا ، وأحياناً شقاءنا .. بل هي تصنع عالمنا بأكمله في غفلة منّا. في لحظات انشغالنا عن التفكير في تلك التفاصيل الصغيرة -في ظل انغماسنا فيها أصلًا- يسير مجرى العمر ما بين زحف وهرولة، ما بين مشي وطيران.وفي تلك اللحظات التي تدغدغ التفاصيل فيها مشاعرنا، تتحدد هوية تلك المشاعر، فرِحة كانت أم حزينة ، تتبلور هوية ملامحنا ، أمزجتنا ، ألواننا. لكل تفصيلة لونها المبهج أو الكئيب، هذا اللون يتحدد فقط بنظرة بني البشر له.

ولتلك التفاصيل المبهجة حكايا لا حصر لها، كأن يجدّل هو لها شعرها رغم ما يواجه من تعثر يصل إلى حد الملل، لا يمكن لها أن تصف شعورها حيال جلوسه خلفها مجدّلا لها شعرها، إنها بعثرة مشاعر لا توصف، سعادة مختلطة بخجل ، دلال، سخط على شكل الجديلة ، تمني ألا ينتهي من ذلك العمل حتى تغفو هي.ومن ضروب التفاصيل المبهجة عندما تتعلّم خياطة زرّ لأول مرة في ظل وجود أبيها، عندما تسمع نبرة صوته الحادة ، والتي لا تملك أن تخفي الحب والحرص في الوقت نفسه، عندما يضع إصبعه على إصبعها الصغير لكيلا تصاب بأذى، في تلك اللحظة يتوقف الزمان، تبتسم لذلك الحب الذي تتنفسه في مجلس أبيها،ولكن تدمع عيناها ربما خوفاً من الفشل في حياكة الزر، ربما بهجة بحرص أبيها على سلامتها ، ربما تعجباً : فأمها حريٌّ بها أن تتولى تلك المشقة إذاً لماذا يفعل أبوها ذلك عنها؟!.من المبهج أيضاً أن يفتح رجل الأعمال دفتر الصور القديمة الذي غطاه تراب مرور الزمن، فيدرك أن ملامحه قد تغيّرت ، يدقق في ابتسامته التي كانت لا تفارقه، في عينيه التي لم يكن يرهقهما السهر، في ضحكة صديقه الشهيرة بالبله، يتذكر الأيام الخوالي التي كان يلازم فيها الصحب بلا هموم ولا مسؤوليات وصولاً إلى الذكرى التي انتهت إليها ذاكرته، مسرعة أمام عينيه كمقصورات قطار متلاحقة في سرعة من الصعب أن يدركها النظر، إنها ذكرى ذلك اليوم الذي التُقِطَت فيه تلك الصورة.وعندما تحتضن طفلها الرضيع وتنظر إلى عينيه فتجد عالماً من البراءة ،ما إن تنتبه حتى تعي أنها كانت غارقة فيه بكل كيانها، تلاحظ تفاصيله الصغيرة الأخرى كقدمه التي هي أصغر من كفّها، تلك القدم المُحمرّة في تورُّد، التي ستمر الأيام ويخطو بها رضيعها خطواته الأولى مستنداً إلى المقعد ، ومن ثم يبدأ في المشي بلا مساعدة ، وأخيراً الركض الذي تغفل عنه أحياناً حتى تجد حطام قطعة أثاث ، وتتعثر أحياناً حتى تلحق بتلك الأقدام الشقية، داعية ربّها أن يعطيها العمر والبصيرة لترى كل تلك التفاصيل التي لا يجدر بها سوى أن تُحفظ وتخلّد.والكثير الكثير من التفاصيل الدقيقة التي قد لا أنتهي إن فصّلت في ذكرها.كفاني فقط أن أقول أن الاهتمام بتلك التفاصيل يكفل للبشر حياة تشتاق إلى الملل.

أما عن التفاصيل المؤلمة ، هي أيضاً لها حَكايا، ولكن الاهتمام بها متعب للأعصاب، عاصف للأذهان، موجع للقلوب، جالب للأسقام، ولكن دعوني ألتزم الحياد في قولي وأقول أن لها أيضاً فوائد، نعم، إنها تلك الفوائد التي لا ندركها سوى عندما نشعر بصفعة القدر لنا، تتمثل في الصدمات التي تتغافل عنها العقول نتيجة للنهم من جوف المشاعر، ضائعة في دوامة الوهم، ربما أيضاً دوامة الحلم الذي لم نُفِق منه -في الغالب بإرادتنا- عندما أسكتنا أفواه وعينا ، وأعطينا لعواطفنا السلطة المطلقة على مسار حياتنا ، ولن أبالغ عندما أقول مصائرنا أيضاً. إن تلك التفاصيل تكشف الأكاذيب، وتنزع الأقنعة، وتنسينا أعباءً وضعناها على أنفسنا وهي ليست منّا، كالاهتمام -المبالغ فيه- بالسمعة، الوقار المصطنع، الصورة الحسنة في عيون الآخرين، وغيرها الكثير.ومن أمثلة تلك التفاصيل أيضاً، ذلك الموعد الذي أعطاه الابن البارّ لأمه المسنّة ليزورها برفقة زوجته وأولاده، إنها تتذكر جيداً ذلك الموعد، وما يصحبه من ضرورة وجود ألعاب لأطفاله، وبالضرورة ذلك المشروب الذي لا يجد ابنها الحبيب ألذّ منه في أي مكان، فقد اعتاده منذ زمن بعيد، ولكن ... جاء الموعد، مرّت خمس عشرة دقيقة، نصف ساعة ، ساعة ، وفجأة ساعتان وثلاث وأربع، تتصل بابنها ليقول لها: "آسف يا أمّي، لقد نسيت الموعد! تعلمين بالتأكيد صعوبة العمل الذي أمتهنه، وإزعاج زوجتي المتطلّبة ، مما جعلني أصطحبها في نزهة لأتخلّص من اسطوانتها "المشروخة"، أعدِك بموعد آخر ألتزم به ، أراكِ بخير أمي .. إلى اللقاء."وتبدأ دموعها في الانهمار ، حزنًا وحسرة ، لكم أن تتخيلوا كم ذلك الموقف قاسٍ!.وعندما تسمع مقطوعة موسيقية هادئة، وفجأة تسمع في ثناياها صوت ذلك اللحن الخلفي الخافت، وتسمع معه دقة فريدة من دقات قلبك، غريبة وأيضاً مُربِكة.تلك تفاصيل مشتتة ، لا يمكنني أن أحصيها عدداً ..

تفاصيل وتفاصيل وتفاصيل ، لا أكثر منها في هذه الحياة ، تجتمع بحلوها ومرّها ، تشاطرنا أفراحنا وأحزاننا، ندور نحن في فلكها، كل يوم، كل ساعة وكل دقيقة. ما لا يمكنني إنكاره هو أننا ندّعي دوماً الاهتمام بالكبريات من الأحداث وأننا لا نهتم بالتفاصيل المملة التافهة، إنها ليست تافهة أيها البشر، لأن بدونها لن نجد نتائج ولا أحداثاً لنهتم بها ولا نصارع الحياة أو نمازحها لأجلها،إنها على دقتها تلك، إلا أنها غاية في الأهمية، كالوقت، الذي قد يحدد إهمالنا أو اهتمامنا بتفاصيله وساعاته ودقائقه قيمة تواجدنا في الحياة من أساسها !

Thursday, March 21, 2013

رحلة إلى الذات الحبيسة


أيام تمرُ بها متشابهات ، وأحياناً مختلفات .. إنها لا تعرف للحزن معنى ، ترتسم دوماً على وجهها علامات السعادة، الاندهاش، الأمل، التعب،الألم، النسيان -أو عساها علامات الرّغبة الملحّة في النسيان- وكل تلك العلامات في آن واحد !  .. إنها برفقة من يعطون لحياتها معنىً حقيقياً، تتبسّم ، تضحك، تتحدث، وأحياناً تنسى وجودها بينهم .. وبرغم وجودهم، وبرغم حبّها الصادق لهم .. إلا أنها تظل متقوقعة على نفسها في عالم خاص بها لا يفقه أحد فيه شيء سواها، ماذا يجدر بها أن تسمِّي هذا العالم؟! .. إنها لا تعرف إن كان سجناً قاتماً أَم بقعة منيرة متسعة هي أقصى أمانيها في الواقع ، تخشى أن تتعمّق في هذا العالم فتفقد من جديد ما وجدته من ذاتها من فُتات بعد رحلة طويلة من البحث ، ولكنّها ما إن تتعمّق في هذا العالم المليء بالأسرار -التي يُخيَّل إليها أحياناً أنها لا تعرفها- حتى تكتشف أنها تجد فُتاتا أكثر بعثرة مما وجدته قَبْلاً .. وفي هذه المرّة تصمم أن تستمر في بحثها المضني، فتجد ما تعتقد أنه آفة ; ألا وهو محاسبة نفسها عن كل شيء بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كل شيء ! ; إنها تُحمِّل نفسَها أخطاء لم ترتكبها، ولكنَّ فجيعة فقدانها من ارتكبوا تلك الأخطاء في زحام الحياة-أو ربما في ظلال عمى بصيرتها- تتسبب في هذا العذاب المقيم .. الذي لا يشعر به سواها أحياناً كثيرة ..

إنها لا تعرف حقاً من ارتكب تلك الأخطاء التي أحالت ذاتها إلى فُتات لا زالت تقتفي أثره حتى الآن ، ومزّقت أواصر ثقتها في جُلِّ من حولها، هل الذنب ذنبها؟! أم ذنب من حولها؟! أم أنها قد خدعت نفسها ولم يكن هنالك أخطاء من الأساس؟! ذلك سؤال دائماً ما استحق البحث عن إجابة في اعتقادها .. لن يهدأ لها بال حتى تعرف على الأقل هل هذه بالفعل أخطاء أم هي من حوّلت مجرّد كلمات وعبارات وأفعال عابرة إلى قيد لها بلا مفتاح ! 

ليست هي ممن يعشقون التفتيش في أوراق الماضي; إنها تودّ أن تصنع من نفسها أخرى لا يمثّل لها الماضي سوى ذكريات عابرة جميلة -مهما كانت بالفعل قاسية حينها- وتعيش حياة مليئة بالكفاح اللذيذ مما يعطي لحياتها وحياة الآخرين متعة لا يشعر بها إلا من استقى من بئرها العميق، ولكن يأبى الماضي إلا أن يطاردها فتجده أمامها مفزعاً أحياناً ومريحاً لقلبها أحياناً أخرى .. لكنّه يبقى دائماً في نظرها ماضياً يمنعها من مواصلة حياتها كأي إنسان ممن تظنّ أنهم في رغد من العيش -ووحده ربهم بهم أعلم- بلا تفكير في الماضي.. ذلك الماضي المفزع يتمثّل أمامها كثيراً في هيئة "بشـر" كانت تعتقد مخطئة أنها أحسنت فيهم الاختيار ، إلا أنهم قد خيّبوا أملها وخذلوا معتقدها فيهم -أو هي من تظن ذلك- وللأسف، تظل متشبثة بهم .. فالمفقود دائماً مرغوب،وفي ذلك حـيرة كبيرة تشكّل على عقلها هالة أقرب إلى الجنون منها إلى المنطق، من هنا لا يتوقّف بحثها عن المخطئ والمُصيب ليس إلا لأنها تودّ أن ترتاح وألا تَظْلِم وأن تقطع دابر الشك!، فهي تخاف الظلم والفقدان ، إنهما عنوان لرواية سخيفة تدور فصولها حول تأنيب ضمير وعذاب إلهي في الدنيا والآخرة، هي لا تقوى على احتمال مجرّد التفكير في وجود تلك الرواية رغم إنها حقيقة -شاءت أم أبَت- منذ بدء الخليقة ، وحتى قيام الساعة، إلا أن في بعض الفقدان حياة !

بعض الصوّر لماضيها المُريح تمرّ على حاضرها كطيف جميل و رُوح تود هي ألا تفارقها، لدرجة إنها تتخيّل نفسها تركض وراء تلك الصور بكل ما أوتِيَت من قوة لعلّها تتمكن من الإمساك بإحداها، لتحتفظ بها في أبهى ما ينبغي لها من أُطُر .. لكنّها تَعْدِل عن ذلك التفكير عندما تلمح شبح الحزن يحوم حول تلك الذكريات وعندما تترقرق دمعة خفيفة في عينيها، فهي تبغض الحزن وتود لو أنه يُمحى من وجود الدنيا .. إلا أنه متعلّق بها كما يتعلّق الرضيع بأمّه ، ولكنّها ليست ككل أم .. إنها قاسية تود أن تَئِد ذلك الرضيع لئلا يكبر ويلازمها، فهو ليس كأي بشري عندما يكبر ينفصل عن أمه، بل هو لا يترك إلا من يود تركَه والخروج من أسره!

فلنقُلْ إنها تكره كل ما يشعر به الإنسان من سلبية تغتال وجوده .. لو أنها تملك لدحضت كل تلك المشاعر البغيضة ودفنتها في مقبرة النسيان ، ولكن تلك المشاعر ضرورة كونية تحتّمها الأحداث وردود الأفعال تجاهها .. هي نفسها تقع في فخّها مهما اعتقدت أنها بارعة في تفاديه! .. إنها تؤمن بأن لو كان للذكريات لسان لصرخت تـألّماً ، ولو كان لها عيون لبكت توجّعاً .. فنحن البشر نكلّفها ما ليس بوسعها ونحمّلها ذنوب حماقاتنا ! .. لا مناص لها من البحث عن ذاتها المهجورة ... أو المفقودة، أحياناً يُضنيها البحث عن ذاتها وعمّا هو مجهول حتى أن الدموع في عينيها تنضب .. وهي تستجدي عطفها بكل قوتها لعلّ دمعة واحدة تسقي جفاف قلبها وتعيد إليه ما شحب من لونه ! ، لعل تلك الدمعة تُخرِج ما بداخلها من صرخات كُبِتت ولم تجد داعياً -مريحاً للضمير ومُسكِتاً لألسنة الجاهلين- للتدوية في الآفاق وفي آذان الكون فربّما ترتاح ويسمع الغافلون !

Friday, January 4, 2013

شـعور ذو حـدين

    إنه ذلك الشعور الخفي الذي يراود الإنسان بين الحين والآخر كلما التقى بفصيل معين من البشر ، ذلك الشعور الذي يجذبه ويطرده ; يجذبه نحو ذلك الفصيل بشدة ، يقف أمامه عاجزاً بلا حيلة .. ضعيفاً بلا إرادة .. صامتاً مذهولاً بلا كلمة ، وأيضاً يطرده .. يعزله وينفيه من بلاد نفسه التي لطالما أقام فيها وسيظل مقيماً فيها طيلة حياته ، فتلك هي إرادة الله في خَلْقه .. ما يثير سؤْلي هو كيف يتحكم هذا الشعور أحياناً في كينونة الإنسان وكيف أيضاً يجعله متمرداً على حياته بأكملها .. ناظراً فيها من الأدنى إلى الأقصى ، وأُرجع إجابة هذا السؤال إلى ذلك الفصيل -سالف الذكر- من البشر .. إنهم قد شُكِّلوا من طينة إنسانية مختلفة عن سائرهم من البشر ، طينةٍ خَوّلتهم أن يختلفوا ويصنعوا فارقاً في حياتهم وحياة آخرين منذ نعومة أظافرهم وحتى نهاية حياتهم .. تلك الطينة النقية الراقية قد استحالت بشراً نعاصرهم ونحادثهم يومياً، شهرياً ، أو حتى سنوياً .. ظاهرهم التشابه بينهم وبين الباقين ، وباطنهم ذلك التفرُّد والاختلاف ، ذلك هو الإحساس الذي يطرق باب قلبك ويتفجّر في خاطرك لحظة رؤيتهم أو حتى مجرد سماع أسمائهم ، فتظل حائراً تتساءل: لِمَ أشعر نحوهم بذلك الشعور الغريب المتناقض؟؟ .. لِمَ هُم هكذا؟! .. ويجري نهر أفكارك نحو مصبِّ أسئلة من هذا القبيل .. مجهولة الهوية بلا إجابة ..
   
     هو ذلك الشعور المحيّر ، قد يكون إحساساً بالدونية بالنسبة لهم .. بمعنى آخر : إحساساً بأنك أدنى منهم إما معرفة ، أو ثقافة ، أو رقياً ، أو أدنى منهم طيبةً في الطباع وحُسناً في السجايا! ، لكنه يبقى ذلك الشعور احتماليُّ الأبدية الذي يؤرّق المنام .. يشغل الخاطر .. يحتل ثنايا المشاعر ، قد يكون مجرّد إحساس بتميّز هؤلاء البشر الذي لا علاقة له بشخصِك ، قد يكون ذلك الشعور أيضاً هو مسمى آخر لعاطفة "الحب" تجاه أولئك الأشخاص ، لكن ما ليس عليه خلاف هو إنه شعور مثير للاستغراب والتساؤل..
   
    إنه شعور ذو حدين ، فيُشعِرُكَ أحياناً برغبة عارمة في القرب من هذا الفصيل البشري .. يُشعرك بوجوب تغيّرك جذرياً وهنا يُصبح دافعاً إيجابياً نحو صُنع شخص أفضل ، وأحياناً أخرى يشعرك بشيء أشبه بالغيرة التي قد تستعمر قلبك بلا رحمة إن سلّمتها زمامه ، وتحيله إلى قلب مليء بالأحقاد .. وفي النهاية تحيلك أنت أيضاً إلى شخص غير مرغوبٍ فيه ، شعور لا أجد له وصفاً دقيقاً .. شعور يجعل الإنسان يرتبط أكثر فأكثر بآخرين قد لا يشعرون بقدرهم في قلبه ، فيعتبرونه مجاملاً أو مبالغاً .. لكن الحقيقة على خلاف ذلك في رأيه ، إنه يرى أنه يضعهم في قالبهم الصحيح الذي لا يستحقون أقل منه ، ويجعله في الوقت نفسه ناقماً على طبيعته ، على أسلوبه في الحياة ، على الطريق الذي رسم لنفسه معالمه ، وحتى على الحياة التي قُدِّر له أن يعيشها بمحض إرادة الخالق ، شاعراً بنقص في نفسه لا علاج له ولا اكتمال مهما فعل .. ولكن، رغم تضارب هذا الشعور إلا إنه يظل طيلة الوقت خفيّاً، محيّراً ، غير مصرَّحٍ به!

سـها الوكـيل :)