Monday, June 17, 2013

تلك التفاصيل الصغيرة..

إنها تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع سعادتنا ، وأحياناً شقاءنا .. بل هي تصنع عالمنا بأكمله في غفلة منّا. في لحظات انشغالنا عن التفكير في تلك التفاصيل الصغيرة -في ظل انغماسنا فيها أصلًا- يسير مجرى العمر ما بين زحف وهرولة، ما بين مشي وطيران.وفي تلك اللحظات التي تدغدغ التفاصيل فيها مشاعرنا، تتحدد هوية تلك المشاعر، فرِحة كانت أم حزينة ، تتبلور هوية ملامحنا ، أمزجتنا ، ألواننا. لكل تفصيلة لونها المبهج أو الكئيب، هذا اللون يتحدد فقط بنظرة بني البشر له.

ولتلك التفاصيل المبهجة حكايا لا حصر لها، كأن يجدّل هو لها شعرها رغم ما يواجه من تعثر يصل إلى حد الملل، لا يمكن لها أن تصف شعورها حيال جلوسه خلفها مجدّلا لها شعرها، إنها بعثرة مشاعر لا توصف، سعادة مختلطة بخجل ، دلال، سخط على شكل الجديلة ، تمني ألا ينتهي من ذلك العمل حتى تغفو هي.ومن ضروب التفاصيل المبهجة عندما تتعلّم خياطة زرّ لأول مرة في ظل وجود أبيها، عندما تسمع نبرة صوته الحادة ، والتي لا تملك أن تخفي الحب والحرص في الوقت نفسه، عندما يضع إصبعه على إصبعها الصغير لكيلا تصاب بأذى، في تلك اللحظة يتوقف الزمان، تبتسم لذلك الحب الذي تتنفسه في مجلس أبيها،ولكن تدمع عيناها ربما خوفاً من الفشل في حياكة الزر، ربما بهجة بحرص أبيها على سلامتها ، ربما تعجباً : فأمها حريٌّ بها أن تتولى تلك المشقة إذاً لماذا يفعل أبوها ذلك عنها؟!.من المبهج أيضاً أن يفتح رجل الأعمال دفتر الصور القديمة الذي غطاه تراب مرور الزمن، فيدرك أن ملامحه قد تغيّرت ، يدقق في ابتسامته التي كانت لا تفارقه، في عينيه التي لم يكن يرهقهما السهر، في ضحكة صديقه الشهيرة بالبله، يتذكر الأيام الخوالي التي كان يلازم فيها الصحب بلا هموم ولا مسؤوليات وصولاً إلى الذكرى التي انتهت إليها ذاكرته، مسرعة أمام عينيه كمقصورات قطار متلاحقة في سرعة من الصعب أن يدركها النظر، إنها ذكرى ذلك اليوم الذي التُقِطَت فيه تلك الصورة.وعندما تحتضن طفلها الرضيع وتنظر إلى عينيه فتجد عالماً من البراءة ،ما إن تنتبه حتى تعي أنها كانت غارقة فيه بكل كيانها، تلاحظ تفاصيله الصغيرة الأخرى كقدمه التي هي أصغر من كفّها، تلك القدم المُحمرّة في تورُّد، التي ستمر الأيام ويخطو بها رضيعها خطواته الأولى مستنداً إلى المقعد ، ومن ثم يبدأ في المشي بلا مساعدة ، وأخيراً الركض الذي تغفل عنه أحياناً حتى تجد حطام قطعة أثاث ، وتتعثر أحياناً حتى تلحق بتلك الأقدام الشقية، داعية ربّها أن يعطيها العمر والبصيرة لترى كل تلك التفاصيل التي لا يجدر بها سوى أن تُحفظ وتخلّد.والكثير الكثير من التفاصيل الدقيقة التي قد لا أنتهي إن فصّلت في ذكرها.كفاني فقط أن أقول أن الاهتمام بتلك التفاصيل يكفل للبشر حياة تشتاق إلى الملل.

أما عن التفاصيل المؤلمة ، هي أيضاً لها حَكايا، ولكن الاهتمام بها متعب للأعصاب، عاصف للأذهان، موجع للقلوب، جالب للأسقام، ولكن دعوني ألتزم الحياد في قولي وأقول أن لها أيضاً فوائد، نعم، إنها تلك الفوائد التي لا ندركها سوى عندما نشعر بصفعة القدر لنا، تتمثل في الصدمات التي تتغافل عنها العقول نتيجة للنهم من جوف المشاعر، ضائعة في دوامة الوهم، ربما أيضاً دوامة الحلم الذي لم نُفِق منه -في الغالب بإرادتنا- عندما أسكتنا أفواه وعينا ، وأعطينا لعواطفنا السلطة المطلقة على مسار حياتنا ، ولن أبالغ عندما أقول مصائرنا أيضاً. إن تلك التفاصيل تكشف الأكاذيب، وتنزع الأقنعة، وتنسينا أعباءً وضعناها على أنفسنا وهي ليست منّا، كالاهتمام -المبالغ فيه- بالسمعة، الوقار المصطنع، الصورة الحسنة في عيون الآخرين، وغيرها الكثير.ومن أمثلة تلك التفاصيل أيضاً، ذلك الموعد الذي أعطاه الابن البارّ لأمه المسنّة ليزورها برفقة زوجته وأولاده، إنها تتذكر جيداً ذلك الموعد، وما يصحبه من ضرورة وجود ألعاب لأطفاله، وبالضرورة ذلك المشروب الذي لا يجد ابنها الحبيب ألذّ منه في أي مكان، فقد اعتاده منذ زمن بعيد، ولكن ... جاء الموعد، مرّت خمس عشرة دقيقة، نصف ساعة ، ساعة ، وفجأة ساعتان وثلاث وأربع، تتصل بابنها ليقول لها: "آسف يا أمّي، لقد نسيت الموعد! تعلمين بالتأكيد صعوبة العمل الذي أمتهنه، وإزعاج زوجتي المتطلّبة ، مما جعلني أصطحبها في نزهة لأتخلّص من اسطوانتها "المشروخة"، أعدِك بموعد آخر ألتزم به ، أراكِ بخير أمي .. إلى اللقاء."وتبدأ دموعها في الانهمار ، حزنًا وحسرة ، لكم أن تتخيلوا كم ذلك الموقف قاسٍ!.وعندما تسمع مقطوعة موسيقية هادئة، وفجأة تسمع في ثناياها صوت ذلك اللحن الخلفي الخافت، وتسمع معه دقة فريدة من دقات قلبك، غريبة وأيضاً مُربِكة.تلك تفاصيل مشتتة ، لا يمكنني أن أحصيها عدداً ..

تفاصيل وتفاصيل وتفاصيل ، لا أكثر منها في هذه الحياة ، تجتمع بحلوها ومرّها ، تشاطرنا أفراحنا وأحزاننا، ندور نحن في فلكها، كل يوم، كل ساعة وكل دقيقة. ما لا يمكنني إنكاره هو أننا ندّعي دوماً الاهتمام بالكبريات من الأحداث وأننا لا نهتم بالتفاصيل المملة التافهة، إنها ليست تافهة أيها البشر، لأن بدونها لن نجد نتائج ولا أحداثاً لنهتم بها ولا نصارع الحياة أو نمازحها لأجلها،إنها على دقتها تلك، إلا أنها غاية في الأهمية، كالوقت، الذي قد يحدد إهمالنا أو اهتمامنا بتفاصيله وساعاته ودقائقه قيمة تواجدنا في الحياة من أساسها !

No comments:

Post a Comment

كومنتي