Thursday, August 22, 2013

جند مجندة ..

إن الصداقة "الحميمة" وليدة الأسرار ، الآلام، الذكريات، والأحاديث الطويلة وليدة الأفكار الفائضة ، والمشاعر فاقدة الاحتواء .. وفاقدة الدفء . وتلك الأخيرة هي الأكثر مدعاة للحديث، فعندما -مثلًا- تطرق الوحدة باب قلبك بعنف، تشعر بالحاجة الملحّة إلى شخص واحد فقط دون غيره ، ذلك الشخص الذي تغمرك لذة الحديث إليه بلا نهاية، ويطمئنك أمامه عُريُك الشعوري بلا أدنى شعور بالخوف.. وأقول ذلك الشخص دون غيره لأنه هو وحده القادر على تخليصك من الهم المطبق على صدرك ; هم الوحدة ..

ما أسهل أن تقول أن الوحدة شيء رائع !.. ولكن الواقع مختلف تمامًا، فللوحدة هول، للوحدة رائحة تجعلك تشتهي البكاء من بعد البسمة، البكاء طويل المدى.. للوحدة قلب، كل نبضة له صاحبة ذكرى، تلك النبضات متصلة مباشرة بمراكز الإحساس في مخك، أغلب المشاعر التي تستثيرها مشاعر الخوف من الوحدة، التألم بسبب الذكريات، الكمَد من عمق الليل وظلامه وأصواته العابرة المخيفة ! الوحدة ليست بتلك البساطة أو الروعة.. إنها مستودع الأشجان وبحر الآلام الأُجاج !

وبحكم أني أحب أن أؤيد حديثي بالأمثلة، سأتحدث عن تلك المحادثات العميقة على شبكة الإنترنت ،حيث إني بشكل شخصي أفضلها أكثر من الحديث وجهًا لوجه. ثمة خواطر لا يمكنك البوح بها -في أشد أوقات حاجتك إليه- سوى عندما تجد نفسك أمام شاشة كمبيوتر وأمامك لوحة مفاتيح تعزف عليها لحن شجنك وذكرياتك وحوادث يومك ، ولا يكون للأعين الكثير من الفائدة في تلك المحادثات; إنه حديث روح وقلب جريحيْن قلِقيْن كتوميْن يجدان الترياق والطمأنينة وفيض الكلام بوجود الروح الشريكة في الحديث، تلك الروح المصطفاة عن أي جند مجندة مؤلّفة أخرى ! 

من أثقل الخواطر التي يمكنك أن تستهل بها حديثك لتتخفف منها: تلك الحوادث اليومية التي تتغذى على عمرك الذهني والنفسي والجسدي، فتشعر كأن لم يُستَنزَف منك شيء عندما تبدأ في الكلام وتذيب جليد قلبك وتذهب عن دماغك كل فكر يروّعك ويقض مضجعك. وما أجمله ذلك الوقت الساحر المسحور; الثلث الأخير من الليل ! فهو بمثابة مصفاة للروح من شوائب الحزن والقلق والإحباط وغيرها،وفي الأصل بمثابة روح ثالثة طيبة العشرة تشهد التحام روحك وصديقك وامتزاج قلبيكما ليصبحا قلبًا واحدًا، دون أن تزعجكما ، بل على العكس، إنها أيضًا تعيد إليكما ما سُرِق منكما من السكينة والدفء .

شديد النقاء ذلك الوقت في نهاية المحادثة التي تمتد لساعات، والذي يعبر فيه كل منكما عمّا بقي في القلب -فدومًا آخر كل شيء هو الأحلى- بغير اكتراث لذلك العقل المزعج الذي يفكّر بالمستقبل والعواقب بلا هوادة ولا شفقة على القلوب الممزّقة حرقةً وأنينًا وكبْتًا. يا لِها من مشاعر بريئة تطير بحرية ! ليس عليها رقيب سوى الرقي الروحي الذي تشعر به حينها، الرقي الذي يأخذك حتى من "الأنا الأعلى" التي بداخلك، فيرتفع بك إلى أسمى ما يمكن لبشر أن يبلغه في هذه الدنيا ..

بقي أن أصف كيف تكون الروح بعد البوح، إنها تصبح شفافة كما لو لم تشُبها شائبة من قبل، كما لو ما زالت على الفطرة النقيّة التي فطرها الله عليها، بريئة من الأسقام، ومن آلام الكتمان وتشتت الفكر في محاولات متكررة للبوْح في غير الليل. فيا أيّها الشاكي ألم الوحدة المزمن، إن لم تجد تلك الروح التي تحتوي روحك، فلا تزال الفرصة بحوزتك لتجد عونك في الحياة على تحمّل مشقاتها، وشبيه روحك الذي ينتشلها من غياهب الغربة ويسقيها من عذب الونس والراحة .

No comments:

Post a Comment

كومنتي